04 - نقض المسلك العرفاني
هذه الجلسة الثانية في نقض المسلك العرفاني (نقض مسلك العرفاء) نحن في الجلسة السابقة قررنا مبانيهم والليلة نشرع في النقض وهو يحتاج إلى جلستين بحيث نكرس الجلسة الأخرى الختامية إن شاء الله القادمة المتعلقة بالعلم الحضوري فيما نحتاج إليه وهو بحث عم البلاء به في كل مكان فلابد من إعطائه قسطا من التحقيق وبناءاً على الإختصار سنوكل البحث عن العلم الحضوري للجلسة القادمة .
بالنسبة للنكتة الأولى : أي مسألة المسلك الذي أعتمده العرفاء في كشف الواقع
هم لم يعتمدوا العقل أو الحس أو النقل أو التجربة كما تعلمون إنما اعتمدوا السلوك العرفاني الذي هو خلاصته (الدخول في المجاهدات النفسانية الصوفية من أجل قطع العلائق المادية للنفس مع عالم المادة المحيط بها)، بمجرد قطع هذه العلائق المادية التي هي حجاب بين الإنسان وبين عالم الملكوت وعالم الغيب ينكشف تلقائيا الواقع كما هو بالطريقة التي بيناها بالإستعانة بشيخ الطريقة وبشيخ الحقيقة كما قلنا .
أولا : أول ما نقول أن هذا الطريق طريق حسنا في نفسه ومن ينكره؟، مسألة تزكية النفس وقطع العلائق المادية هذا شيء حسن في نفسه وقد نبهت عليه وأشارت إليه جميع الشرائع، وأهتم به الفلاسفة من قديم الزمان تحت عنوان التزكية أو التأديب وأن الفلاسفة لم يهتموا فقط بالعقل النظري إنما اهتموا بالعقل العملي، وتقوية العقل العملي ليس إلا نفس هذا السلوك العرفاني، تقوية العقل العملي قلنا يسمى بالتربية، عندنا التربية والتعليم، التعليم (تقوية العقل النظري)، والتربية (تقوية العقل العملي)، وقلنا هاتان مقولاتان متباينتان بتمام الذات لا علاقة لأحدهما بالأخرى، تقوية العقل النظري عن طريق التعليم سواء التعليم الحوزوي أو الأكاديمي أو غيره في المدرسة، وتقوية العقل العملي عن طريق التربية، والغاية من تقوية العقل النظري عند الفلاسفة هو تكوين الرؤية الكونية الواقعية او كما يعبر صيرورة الإنسان عالماً علميا، يعني تحصيل الرؤية الكونية التامة الواقعية بالبرهان هذا كمال العقل النظري عندهم .
كمال العقل العملي حصول هيئة العدالة، أنك تصير عادل التي هي أم الفضائل الأخلاقية، فالسلوك العرفاني هو نفس التأديب والتربية أو التزكية بمصطلح القرآن الكريم شيء واحد نحن لا ننازعهم في هذا وهذا ليس من مختصاتهم وهذه النقطة أريد أن أؤكد عليها، لا يدّعوا الإختصاص أن هذا منحصر فيهم، السلوك العرفاني (تهذيب النفس، تأديب النفس، تزكية النفس) ليس من مختصات الصوفية إنما أيضا شاركهم فيها الفلاسفة والأنبياء على مر التاريخ وعامة المؤمنين، نعم نحن لا ننكر تخصصهم في هذا لماذا ؟ لتركيزهم عليه لأنهم عكفوا عليه والذي يعكف على شيء ينبغ فيه، نحن لا ننكر أنهم أصحاب خبرة في هذا المجال وربما نستفيد منهم أيضا فما المشكلة في هذا، هم عكفوا وركزوا وكرسوا كل جهودهم وحياتهم لتقوية العقل العملي لهذا السلوك، فشيء طبيعي ينبغوا فيه ويصبحوا أصحاب خبرة فيه ونحن نعترف لهم بهذا، إذا أردت أن تأخذ دليلا على السلوك لا يوجد مانع أن تأخذه من شيخ صوفي من أصحاب الخبرة يدلك على كيفية تزكية النفس مثلا إذا لم يكفيك الكتاب والسنة وإن كان فيهم الكفاية وفي مرويات أهل البيت (عليهم السلام) الدين أصلا لم يأتي إلا للتربية والتزكية، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ونحن نعترف لهم بالأفضلية في هذا المجال خبرة عملية.
ولكنهم هما يدعوا أن هذا الطريق خاص بهم لا ليس الأمر هكذا هم ما فعلوه تماما مثل ما فعل الماديون في المنهج التجريبي، تلاحظ الماديون أدعوا أن المنهج التجريبي من خصائصهم وأنهم قد إكتشفوا منهجاً جديد كما يصرح فرنسيس بيكون وجون لوك وغيره ويدعوا أنهم هم من اكتشفوا الإستقراء والتجربة، وهذا دليل أنهم لم يقرؤا حتى فهرست منطق أرسطو، المنهج التجريبي والإستقراء من الأجزاء الذاتية للمنطق الأرسطي.
نعم نعترف لهم أيضا بالفضل لأنهم ركزوا فقط في المنهج التجريبي فنبغوا شيء طبيعي تركز تنبغ ربنا خلق الإنسان بهذا الشيء، نعم نشهد لهم بالفضل والنبوغ في هذا المجال ولكن لا تقول أنك أنت من إخترع التجربة، والتجربة خاصة بنا ومنهجنا المنهج العلمي والمنهج الآخر ضلال هم يقولون هكذا مثل ما يفعله الصوفيون الآن في السلوك العرفاني فالتقوية والتزكية ليس من مختصاتهم، شيء جميل في نفسه ولكن ليس من مختصاتهم نعم لهم الفضل لأنهم عكفوا عليه هذا أول نقض في مسألة السلوك.
كما أننا لا ننكر أن النفس المجردة الإنسانية كما أثبت الفلاسفة أنها مجردة في ذاتها، جوهر مجرد من سنخ عالم الغيب عالم الملكوت، إذا قطعت العلائق المادية تصبح لها حالة مرآتية تكشف الواقع تنكشف لها أشياء لكن بحدود، وأنا هنا أقرأ بعض النصوص لكبار الفلاسفة اللذين يؤكدون على السلوك العملي واللذين دوّنوا في العرفان العملي قبل أن يولد جد محيى الدين ابن عربي.
سنقرأ بعض النصوص لاهتمامهم، لنثبت أنهم لم يهتموا فقط بالبرهان والبحث والتحقيق ولكنهم أيضا كانوا يؤكدوا على السلوك ويعتبروه من الأمور الضرورية للفيلسوف الحقيقي (المتأله) .
1- قال الفارابي (في تحصيل السعادة ص 89) :
(الفيلسوف الكامل على الإطلاق هو أن تحصل له العلوم النظرية -منطق، فلسفة، معرفة، هندسة، فيزياء- وتكون له قوة على استعمالها) يعني أن يفعل ما يعتقد، لا يخالف قوله فعله يكون قادر على تطبيق ما يعتقده هذه الاعتقادات النظرية بالتربية بتقوية العقل العملي.
2- وقال ابن سينا (في النمط الثامن في الإشارات ص 253) :
(والعارفون المنزَّهون) ، سنقرأ شرح الطوسي لمعنى العارف المنزه، ليس الصوفية كما يتوهم البعض، (إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن) يعني قطعوا العلائق المادية )وانفكوا عن الشواغل) الصوارف المادية (خلصوا إلى عالم القدس و السعادة و انتقشوا بالكامل الأعلى و حصلت لهم اللذة العليا) لذة التجرد كمالات الإنسان العالية.
قال الشارح الطوسي: يريد بالعارف (العرفاء المنزهون) الكامل بحسب القوة النظرية، -وليس الصوفية هكذا فهم، ناقصون تماما في القوة النظرية ولا يهتموا بها- والمنزهون أو المنزه هو الكامل بحسب القوة العملية -النظرية والعلمية هدف الفلاسفة كما هو هدف الأنبياء- فإن كمال القوة العملية هو التجرد عن العلائق الجسمانية .
ففي النمط التاسع نمط العارفين لا يعني نمط الصوفية يعني نمط الفلاسفة المتألهين العاملين، الثامن قدمه على التاسع، يتكلم عن العرفاء المنزهون يعني العاملون لا فقط أصحاب القوة النظرية، بل القوة النظرية ثم شرع في النمط التاسع ليبين كيفية تكميل العقل العملي، النمط التاسع نمط العارفين هذا ليس عرفان نظري هذا عرفان عملي، يتكلم عن السلوك وأحوال التجرد، متمم لمسألة السعادة.
وقال الفخر الرازي: هذا خصم للفلاسفة لكن جرى الحق على لسانه عندما تكلم في مقدمة مقامات العارفين التاسع (إن هذا أجل ما في هذا الكتاب فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبا ما سبق إليه من قبله ولا لحقه من بعده) 150 سنة قبل أن يولد محيى الدين ابن عربي مرتب العرفان موجود في مقامات العارفين، لا أقول انه مثل ابن عربي في الفتوحات هذا متخصص لكن أقول؛ أن هذا ليس من إختصاصهم ولا هم من اخترعوه مثل ما قال أصحاب المنهج التجريبي أنهم اخترعوا التجربة، هذا منهج قديم والفلاسفة تهتم به من أيام زمن سقراط ، لكنهم نعم عكفوا عليه وتخصصوا فيه، فنحن من حيث السلوك ليس لدينا مشكلة لكن مع مراعاة القوانين العقلية والشرعية بدون إفراط وغلو أو إدخال صناعات هندية وصينية فكل شيء زاد عن حده إنقلب إلى ضده.
ثانيا النقد الآخر: إهمالهم لتكميل القوة النظرية
أهملوها بالكلية، نحن قرأنا نصوص كثيرة في البحث السابق عن رفضهم للعقل النظري وادعائهم أن الفكر لا يمكن أن يوصل إلى الواقع (الفكر المحض) وأن الأدلة النظرية لا يمكن أن تخلو من الشكوك والظنون هكذا قال محيى الدين والقونوي والقيصري والفناري، أن الوصول إلى المطالب العلمية عن طريق التفكير متعذر بنحو يقيني وواقعي، بمعنى أن هذا ما تسموه أنتم بعلم اليقين هذا لا يساوي عندنا جناح بعوضة يعني بحسب اصطلاحكم هذا لا يساوي عندنا شيء حجاب ليس إلا ظنون، فنقول أنتم عندما تهملوا العقل النظري وتنكروا أحكام العقل الضرورية في إفادتها لليقين وتقولوا كما يقول القونوي في الرسالة المفصحة (أن كل ما وجدناه بين الناس ليس إلا خيالات وظنون وأوهام بعضه أقوى من بعض)، فإذا أنت أهملت العقل النظري والأحكام العقلية من الذي دلك على طريق السلوك والتصوف، نحن سلمنا أن طريق السلوك وتهذيب النفس أفضل طريق من الذي دلك على ترك المدرسة والدخول في السلوك إلى الصومعة والمحراب؟
تحتاج دليل لذلك! كيف ؟ إذا كان كل ما وجدته بين الناس خيلات وظنون وأوهام ! من الذي أرشدك إلى طريق التصوف أو أن تأخذ بكلام الشيخ من ؟ ! بمعنى آخر هل فكرت قبل أن تدخل المحراب والصومعة أم لا ؟ ! وأنت تقول أن الفكر متعذر في الوصول إلى الواقع بنحو يقيني فنسأل القونوي من الذي قال لك أن طريق المدرسة مرجوح والأفضل والأحسن لا نتلف وقتنا ونذهب للصومعة.
هذا الحكم حكم من؟! إذ أن العقل متعذر، فما يقضي حياته ثلاثين سنة في الصومعة على بعض الظنون والأوهام كما هو يقول بنفسه، فمن الذي دلّك على هذا الطريق أخذت استخارة؟ شاهدت في المنام، سمعت كلام شيخك، لابد يكون في الواقع أحد هذه الأشياء، فهناك ناس تترك البرهان وتذهب للمقبولات أو على المنام أو الإستخارة، إذا أنت بتعطيلك لأحكام العقل وبنفيك ليقينيتها يسقط باب التصوف أيضا، نفس الكلام الذي نقوله للحداثويين أصحاب المنهج التجريبي الذين يتنكرون للأحكام العقلية الأولى ويصرون على أصالة التجربة نقول كيف عرفت حجية التجربة ؟ ! حجية التجربة ليست ذاتية، من الذي دلك على المنهج التجريبي، فلا يصح أن تعتمد على العقل ثم تتنكر له بعد ذلك! هذا يضر بأصل مسلكك، فإذاً بعد نفيهم للأحكام العقلية اليقينية ليس عندهم هناك دليل على صحة مسلكهم، لأنه لا يمكن أن يكون الكشف دليل على الكشف وأصل الدخول في هذا السلوك وأنه في النهاية سيؤدي إلى تجرد النفس، من قال أن هناك نفس ومجرده ويمكن ان تتجرد عن قواها هذه كلها مقدمات فلسفية ثبتت بالبرهان العقلي، من أين أخذتها أنت وبنيت عليها مسلكك هذه أهم نقطة على طريقتهم .
ثالثا : والنقض الآخر
أنهم من المفترض أنهم ناس من أولياء الله ومن الصالحين فمن الأولى أن يربوا بأنفسهم عن طريقة السفسطائيين ويأتوا بشبهات جورجياس بروتاجوراس في القرن السابع قبل الميلاد ويحييها في كتب العرفان النظري كما فعل ابن فنار في مصباح الأنس، نفس الشبهات جاءوا بها في التشكيك ونحن قرأنا بعضها في البحث السابق، أن هذا خارج عن المدارك والعقائد والأمزجه والنسبية المطلقة، فغلبت روح التشكيك والسفسطة على كلامهم وتشكيكهم في الأحكام العقلية.
هذه جريمة إنسانية في حد ذاتها لا يغفرها لهم العقل أصلاً لأنه بالتشكيك في عقل الإنسانية سيفقد كل شيء فهذا شرف الإنسانية، استبدال العقل بالخيال والحقيقة بالمجاز هذه جريمة بحد ذاتها، يدخلوا الناس في نفق مظلم، انت تقف على أرضية صلبة ثم تتقدم إلى الأمام، لا أن تدخل في الظلمات ثم تأتي بالنهاية بعد ذلك تقول وجدنا الأنوار، من يصدق هذا الأمر، نحن نحترم الخيال والسلوك لكن في نفس الوقت ما هو الأساس والمنطلق.
لذلك الفلاسفة الإسلاميين مثل الفارابي وابن سينا والسيد الداماد هؤلاء كانوا أيضا عرفاء وأصحاب سلوك وزهد ولكن على المستوى العملي، لم يرفعوا أيديهم عن البرهان لحظة واحدة وظل البرهان عندهم هو الأصل وله الأولوية والإشراف والأصالة، أما أنك تتخلى عن البرهان هذا خط أحمر لا يقبله أي فيلسوف إلا صدر الدين الشيرازي حسب اعتقادنا أنه أشرك معه شيء أو بحسب المبنى الآخر أنه جعله بشرط شيء، لا لا بشرط، أن يكون مؤيد بالكشف أو النص وإلا لعبت بك الشكوك حسب ما هو موجود في بعض كلماته.
فلا يوجد فيلسوف يقبل استبدال العقل بالخيال لأنه إذا دخل الخيال أبهمت التصورات وستبهم التصديقات بعدها، سوف نقرأ أن ابن سينا كان مهذبا ومؤدبا حتى مع المتكلمين أعداءه وخصومه لم يتلفظ بألفاظ نابية معهم، تلفظ بلفظ نابي مع واحد فقط هو فَرفوريوس والسر ما هو، أن فَرفوريوس عنده نظرية اتحاد العقل والمعقول وأخطأ فيها، وهل أخطاءه أكثر من أخطاء المتكلمين؟ لا ولكن لماذا هذا الهجوم اللاذع عليه؟ لأنه غيّر منهج الفلاسفة هو يدعي أنه فيلسوف وهو كان من تلاميذ أفلوطين أصحاب المدرسة الأفلاطونية المحدثة، وهذه هي الحكمة المتعالية فبعض تلاميذ أرسطو الذين ذهبوا إلى الإسكندرية بعد ذلك في القرن الثاني بعد الميلاد فألحقوا بالفلسفة الدين المسيحي ومكاشفات الصوفية معا، فصار الثلاثي هذا معهم، هؤلاء أفلوطين بالذات من أسسوا هذا المذهب يعتمد على المسيحية والمكاشفات الصوفية أيضا فالحكمة المتعالية ليست إلا مظهر آخر من مظاهر الأفلاطونية المحدثة وهذه تبنتها الكنيسة في القرون الوسطى من أول القديس أوغسطين الذي كان يثني على أفلوطين ويلقبه بعلامة العلماء، فهذا منهج خطر لا يمكن أن يتحمله كابن سينا وغيره أن تخلط بين المناهج بهذا الشكل لذلك كان حادا في الرد عليه.
يقول ابن سينا في الإشارات ص 295 : (و كان لهم رجل يعرف بفرفوريوس عمل في العقل و المعقولات- كتابا يثني عليه المشاءون و هو حشف كله) يعني زبالة، لا يقول خطأ، لأنها مسألة منهجية لا لأنه أخطا، بل بسبب خطورة المنهج، لأنه خيال في خيال، لا لأنه تعقل واخطأ فالفلاسفة تتعقل وتخطأ، لكن هذا لم يتعقل وأدخل الخيال (وهم يعلمون) يقصد أتباعه (من أنفسهم أنهم لا يفهمونه) ألفاظ مهولة وايضا ليس محصل لها (و لا فرفوريوس نفسه) حتى هو لا يفهم ما يقول (و قد ناقضه -ناقص فرفوريوس- من أهل زمانه رجل و ناقض هو – فرفوريوس- ذلك المناقض بما هو أسقط من الأول) يعني رد على الفيلسوف رد أسقط من الادعاء الأول .
وقال أيضا في نفس الشفاء ص 329،
(و أكثر ما هوّس الناس فى هذا - مسألة العاقل والمعقول - هو الذي صنف لهم إيساغوجى – فرفوريوس- و كان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة شعرية صوفية يقتصر منها لنفسه و لغيره على التخيل، و يدل أهل التمييز على ذلك كتبه فى العقل و المعقولات و كتبه فى النفس) فمشكلة ابن سينا هنا معه مشكلة منهجية وليس لأنه أخطأ فقط بحيث أن عنده نظرية فلسفية خاطئة فقط بحيث يرضى له كل هذا الهجاء، بل لأنه اعتمد على التخيل وبيانات صوفية شعرية، الملا صدرا حبيبه فرفوريوس وقدوته لذلك حين ينقل عبارة (حشف كله) يقول لا يابن سينا بل تحقيق كله، فهو يمشي على منهجه تحقيق كله حق كله علم كله فبدأ يضرب بابن سينا، المنهج مشكلة لا في الصح والخطأ فكل بني آدم خطّاء، بل لأنه أدخل الخيال في القضايا وتقول أن هذا لا يعلمه إلا الراسخون في العلم وأهل الله هذه المصادرات، تكلم بالمنطق والبرهان ببيان واضح وفصيح بعيد عن المجازات فهي من سمة المنهج الخطابي ليس حتى المنهج الجدلي، يجب ان يستعمل الأسلوب العلمي الذي حتى عند الأدباء واضح، فإذا خالفنا الوضوح ودخلنا في الإبهام سلب منا المنهج العلمي وقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي بالأشياء الواضحة وليس بالغوامض والإبهامات والإيحالات وهذا لا يعلمه إلا الراسخون في العلم وسر السر وهذا الكلام، الأنبياء بعثوا بالقضايا البينة الواضحة يفهمها جميع الناس أدخلت أنت بها أسرار لا يعرفها إلا أنت وجماعتك ! وهذا ليس بحث علمي والبعض يظن أن ابن سينا اصبح صوفياً أو ترك الطريقة المشائية لا بل عاش مشائيا ومات مشائيا وسيبعث مشائيا عقلاني وسيد العقلاء وهو متصوف عملا فالفارابي هكذا والطوسي أيضا ونحن نسعى أن نكون هكذا، فنحن ليس لدينا مشكلة مع الصوفية العملية بل المشكلة مع العرفاء النظريين في العرفان النظري هم وضعوا رأسهم برأس الفلاسفة.
والمشكلة الأخرى هو توهمهم للتلازم بين قوة العقل العملي والعقل النظري، أنه إذا صار مكاشفاً وتجرد عن الماديات هو تلقائيا سيعرف كل النظريات العلمية الفيزيائية والرياضية كل شيء سيعرفه بالتسبيح والذكر ! طيب أين ؟ من دخل الصومعة وبقى ثلاثين سنة، كيف وأقوى شيخ عندكم وأشرف واحد وهو صدر الدين القونوي وهذا واضح أنه يجلس كالتلميذ بين يدي نصير الدين الطوسي ويقول له علمني، علمني البرهان والعقائد بالبرهان، فأنا من أرجع لحالة الصحو أجد عندي شكوك وأوهام وهذا لا يوجد أحد وصل لمستوى نصف قدم القونوي، فلأنه لا يوجد تلازم، كما أنه يوجد علماء أقوياء في العقل النظري سواء أطباء ومهندسيين وفيزيائيين وفقهاء وفلاسفة وغيرهم لكن لا أخلاق لهم ولم يشتغلوا بالعقل العملي فهذا ليس له علاقة بهذا، عالم نحرير لا أخلاق ولا أداب عنده، حياته كلها ينظر في الكتاب والتحقيق، نفس الآخر الصوفي عكف على العمل والسير فيصبح إنسان مخلص وزاهد وإنسان مؤمن لكن لا يصير فيلسوف وهذا الطريق لا يؤدي لذلك.
فهناك سنخية فلا علاقة للتسبيح والذكر بأن يفاض عليك القضايا النظرية المدرسية، فأنت تدرس بالحوزة عشرين سنة لا تقوى بدنياً، يجب أن تذهب وتمارس الرياضة، فما علاقة الذكر بالعلوم وما علاقته بتقوية البدن فهذه قوة وهذه قوة أخرى لا علاقة للحوزة بتقوية البدن، فيوجد فيلسوف وفقيه ولكن جسمه ضعيف وهذا نفس الشيء، فالقوة البدنية قوة أخرى غير القوة العقلية، فإذاً هناك تباين بينهم ولا يوجد أي تلازم.
نعم نحن نؤمن بالتلازم بالعرض كما قلنا سابقا والفلاسفة تؤكد هذا الأمر أن التزكية علة معدة للعلم والمعرفة لا علة فاعلة لها يعني تصفي ذهنك من أجل اكتساب العلم بالحد والبرهان لا أنها علة فاعلة، يعني ليس أن لا أدخل إلى المدرسة أصلاً وأذهب إلى الذكر والتجرد فقط وبعد تذلك يفاض علي معارف مدرسية وأصير فيلسوف وفقيه أين هذا في الواقع لا يوجد أحد؟! لا يوجد لعدم وجود التلازم بينهم، وانظر إلى شيخ الإشراق في كتابه حكمة الإشراق ليس به شيء جديد كل إشكالاته رددنا عليها وهو فيلسوف لكن ليس من الطراز الأول بل الثاني او الثالث..إلخ، فإذا لا ينبغي أن نخلط بين هذه المناهج مع بعضها البعض .
رابعا : فقدانهم للميزان المعرفي
وهذه أكبر مصيبة معرفية، قلنا قبل ذلك أن الطائفة الوحيدة التي حققت منهجها المعرفي قبل بناءها العلمي هم فقط الفلاسفة حققوا المبنى المعرفي في صناعة المنطق وصناعة البرهان ثم جاءوا بعد ذلك للفيزياء والرياضيات والفلسفة ثم بعد ذلك أصابوا أو أخطأوا في التطبيق لا يهم ليسوا معصومين من الخطأ لكنهم نقحوا المبنى المعرفي لهم، لكن لا الصوفية ولا الإخباريين ولا المتكلمين ولا الحداثويين التجربيين حققوا مبناهم المعرفي قبل البناء العلمي، وللحق والإنصاف الفقهاء نعم، في علم أصول الفقه حققوا مبانيهم المعرفية في حجية الكتاب والسنة والإجماع والعقل قبل الدخول في استنباط الأحكام الشرعية نعترف لهم بذلك وهذا عمل الفقهاء في الفقه، لكن مشكلتنا مع المتكلمين والإخباريين والصوفية والاتجاه الحداثوي أي المتعلق بالقضايا العقائدية والفكرية، وأما الفقهاء فعلوا ما ينبغي فعله جزاهم الله خيرا أصابوا أو أخطأوا هذا أمر آخر لكن الطريقة المنطقية هي هذه، فإثبات دليلية الدليل ضرورة قبل الإعتماد على هذا الدليل هذا شيء بديهي وهذا ما لا يفعله الصوفية، نحن قرأنا في البحث الأخير كيف هم يتضاربون في المنهج المعرفي، ليس عندهم منهج، المنهج غير واضح تارة تقول ليس بمحتاج كمحيى الدين ابن عربي يقول الميزان للمحجوب يصرح بهذا، وغيره يقول الميزان هو أن نعتمد على ميزان وجداني وعندهم ميزان خاص بهم، إذا كان المكاشفة من الأذن اليمنى أو اليسرى، وهذه مصادرات هي محتاجه لبيان أصلا، فحجيتها ليست ذاتية يعني أرجعوا إلى علامات وجدانية ليست بينه ولا مبيّنه تحتاج هي إلى ميزان أيضا، وبعضهم اعتمد على كلام الشيخ والإجماع على أنه حجة مع أنه بإجماعهم أنه ليس معصوم وممكن أن يخطأ لكن عملاً عصموه ومع إحترامنا له صاحب خبرة نعم ولكنه ليس حجة إذا كان كلام ابن سينا وأرسطو ليس بحجة فكلام شيخك أيضا ليس بحجة فليس بنبي ولا إمام معصوم فيحتاج إلى ميزان أيضا، فالمقبولات لا حجية ذاتية لها هي دليل من الدرجة الثالثة.
طبعا ابن تركه الوحيد الذي قال ممكن نعتمد على البرهان العقلي وقال أن العقل هو الأساس لا ينبغي أنك تهتكه وتهينه وتتجرأ عليه وإن كان ابن تركه قال في غيبة الشيخ، يعني اذا غاب الشيخ يعمل العقل لكن إذا الشيخ موجود إذا حضر الماء بطل التيمم.
يبقى فقط البحث عن أنواع الكشوفات (الصوري، المعنوي والعلم الحضوري بالذات) هذا إن شاء الله الجلسة القادمة والحمد لله رب العالمين .