الإلحاد، مركز المشكلة والمعالم العامة للعلاج
بداية أقدم تلخيص لما مر ذكره في الجلسة السابقة ثم أبني عليه إكمالا لم كنت أريد قوله أساساً، بداية قد أبان لنا العرض المتقدم كيف تحول الإلحاد من مجرد ظاهرة محدودة إلى ظاهرة اجتماعية منتشرة وذلك عندما أصبح الإلحاد جزءاً من منظومة مادية متكاملة نجحت إلى حدٍ كبير في جعل المجتمعات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ناهجة طبقاً لتعاليمها المعرفية والعقدية والأخلاقية والإجتماعية وأيضا السياسية والإقتصادية، وأبان لنا أيضاً أن المنظومة المادية الحديثة قد جائت كردة فعل وكبديل عن المنظومة اللاهوتية المسيحية الكاثوليكية ثم بعدها البروتستانتية والتي مهدت لظهورها من خلال الفشل في قيادة الحياة الإنسانية ولكن رغم ذلك المنظومة المادية أرادت أن تقدم نفسها كبديل عن أي منظومة لاهوتية مهما كان مضمونها، فبعد الإعراض عن الميتافيزيقا ورفض الصدق المطلق لأوليات العقل أصبحت الطريق ممهدة أمام إستغلال الماديين للنظريات العلمية في الفيزياء والأحياء ولإبرازها كمضادة للمنظومة اللاهوتية مهما كان العنوان، وقد إنضاف إلى ذلك أنهم سخروا كل قدراتهم لدراسة الظاهرة الدينية تاريخياً وونفسيا واجتماعياً وهم نفسهم الذين أقاموا الرفض للميتافيزيقا قاموا بنقد الدين على هذا الأساس.
هيوم له ثلاث كتب في نفس الموضوع بالنسبة للميتافيزيقا وعنده كتابين بالنسبة لتفسير الدين كظاهرة بشرية فقاموا بتفسير ما جمعوه من بيّنات وآثار انطلاقا من الخلفية المادية عن الإنسان والحياة وهذا ما مكنهم من إبراز هذا التفسير بلباس علمي، ثم بعد نجاح المنظومة المادية في السيطرة على مقاليد التعليم ومراكز البحث العلمي ونظم الإقتصاد والسياسة والإجتماع والإعلام وعندما انضم إلى هذا النجاح تطور وسائل المواصلات والتواصل والنشر والإعلام كانت النتيجة أن تمكنت المنظومة المادية من الإجتياح المعرفي والثقافي لمجتمعاتنا وجعل الرؤى التجريبية والليبرالية والنفعية والرأسمالية مهشورات عصرية مفروغ عن صحتها، ونصّبت رموزها كمرجعيات علمية وعملية فشغلت أكثر الناس بأهدافها وقوّضت قدرتهم على الإهتمام بمراعات تكاملهم المعنوي في المعرفة والعقيدة والسلوك وهذا أدى ضعف حضور الدين في حياتهم اليومية بشكل فاعل وحيوي مما ساعد في النهاية على جعل الإرتباط بالعقيدة اللاهوتية هشاً مبنياً على العاطفة والتقليد الأعمى وقد فصلنا في كيفية حصول ذلك.
وأهم النقاط التي استطاع ان يدخل فيها إلى عقول الناس هو أن الإلحاد قدّم نفسه كنتيجة منطقية لما دعوه بالعلموية أو العقلانية العلمية، معتبراً نفسه المظلة التي نمت تحت فيئها عناصر التطور والرقيّ الذي نحيا فيه ومعتبراً المنظومات اللاهوتية عناصر تهدد بقاء هذا التطور والنمو.
أما هذا الواقع يسأل الإنسان الإلهي أين يمكن مركز المشكلة وقد يسأل كثيرون أنفسهم كيف نقوم بدفع خطر المادية، وكيف سنعيد الأخذ بزمام المبادرة وكيف ننتصر عليهم في المجتمع حتى لا ينساق الناس ورائهم، ولكن قبل أن تسأل كيف سنقوم بدفع خطر المادية والإلحاد عليك أن تسأل لماذا نجحت المنظومة المادية أساساً في بسط سيطرتها على مقومات الحياة الإنسانية، وفي اجتياحها المعرفي والسلوكي لمجتمعاتنا، هل المسألة مجرد خداع وتضليل وإغراء أم المسألة أعمق من ذلك سنحاول أن نكتشف ذلك.
بداية ألم يكن نجاح المنظومة المادية فيما وصلت إليه هو أنها استطاعت أن تؤثر في نفوس الناس وتسيطر في مجتمعاتنا، أليس هذا التأثير وهذه السيطرة عبارة عن تفاعل واستجابة مناسبة من قبل المجتمع، مع ما قامت هذه المنظومة وما قدمت، هي استجابة وتأثر من قبل المجتمع الإنساني، هل يمكن أن يفعل الفاعل أمراً في محل ويكون هذا المحل غير قابل أصلاً لهذا الأمر، هل يمكن تقطب حجراً بأصبعك، أو أن تخترق جبلاً بأناملك، لا يمكن.
ومن هنا، لو لم يكن المجتمع الذي يدين بالمنظومة اللاهوتية قابلاً ومهيأ بالفعل للاختراق من قبل المنظومة المادية، لما كان الأمر على ما هو عليه، أي لو لم تكن المنظومة اللاهوتية في نفسها أو في علاقتها مع مجتمعها تعانى من ضعف وهشاشة من جانب من الجوانب لما كانت المنظومة المادية لتنجح في نشر مبادئها وإقناع المتدينين بها، وتشكيكهم.
أما لو كانت المنظومة اللاهوتية متماسكة معرفياً في نفسها بالكامل، وفاعله في علاقتها مع الناس بأن جعلتهم متماسكين معرفياً في علاقتهم بها، لما كان الحال على ما هو عليه ولما استطاع الماديون أن يحلموا أصلاً بالتأثير على اللاهوتيين وعلى جذبهم إلى صفوفهم، فالمشكلة أين، هل هي فقط في علاقة المنظومة اللاهوتية بالناس، أم فيها وفي نفس تماسكها المعرفي، أنا أتكلم عما وجدته وهذا على الأقل يبقى مجرد دعوى بالنسبة لكم، وهو أن المشكلة تكون في الأمرين معاً في التماسك المعرفي في المنظومة اللاهوتية الأوسع انتشاراً وتأثيراً طبعاً لا أتكلم عن دين معين أو منظومة معينة، لأن الإلحاد جاء في مواجهة كل الاتجاهات الدينية والأخص ما يسمى بالإبراهيمية وأتكلم بشكل عام في نهاية المسلمون يقرون بواقعية رسالة المسيح ورسالة موسى عليه السلام ورسالة إبراهيم، وأتكلم بشكل عام عن واقع هذه المنظومات بغض النظر عن التفاصيل.
فما وجدته هو أن التماسك المعرفي للمنظومات اللاهوتية الأوسع انتشاراً وتأثيراً وفي علاقتها بجماهيرها المشكلة موجودة في كلا الأمرين، طبعاً المقام لا يسع لكي أقوم بالتدليل والبيان المستوفى لكلا الأمرين لذلك سوف اقتصر على نقاط أساسية وأحاول أن أبين ذلك بشيء من التدليل وإلا التبسيط في ذلك يحتاج إلى مقام آخر، وجلسات متعددة.
ابدأ من مشكلة في علاقة المنظومة اللاهوتية بالمتدينين، المشكلة ترجع إلى أن عملية التعليم الديني سواء في المدارس أو في البيوتات أو في المحافل العامة لا ترقى لمستوى جعل المتعلمين أخذين للدين عن دليل، بل كثيراً ما يتم تلقين المسائل مجردة على الدليل، وفي أحسن الحالات يتم تلقين الأدلة، وتحفيظها فقط، دون أن يعملوا على جعل المتعلمين شركاء في هذه الأدلة بأن يتعقلوها تعقلاً تاماً وصحيحاً بحيث تصير الحصانة ذاتية وليس بالعرض.
ولذلك لم يكن مستغرباً أن يتحول المتدينون في كثير من الأحيان إلى مجرد أتباع عن تقليد أعمى، نشئوا تربوا اعتنقوا دينهم على أساس أتباع الآباء، كما يقول القرآن الكريم في ذمّه للمشركين، بل مضافاً إلى ذلك كثيراً ما يختلط ما هو من الدين بما هو من تقاليد المجتمع دون أن يكون لتلك التقاليد أي أساس شرعي أو عقدي وكثيراً ما تختلط الأمور التي قام عليها الدليل بشكل قاطع وحاسم مع الأمور التي لا تجد دليلا حاسماًً مع الأمور التي لا دليل عليها أصلاً.
كل ذلك يختلط معاًً ليشكل رؤية المتدين للدين، وكثيراً ما يستغل أيضاً الانتهازيون المتلبسون بزي الدين بساطة الناس، إخلاصهم،ليقوموا بما لا علاقة لهم بالدين والحق ولكن باسم الدين، وفي المقابل لا ترقى عملية التصحيح والتوجيه والتحذير إلى المستوى المناسب مع حجم المشكلة، ومع ذلك أن هذه الأسباب أسباب ظاهرية.
ما أريد قوله هو أن أحد أسباب هذه الظاهرة يرجع إلى تقصير أو قصور في إيجاد آليات التواصل.
ولكن الأخطر والأهم هو أن قسماً من المنظرين للمنظومة اللاهوتية مقتنعون على المستوى النظري بأن دين الناس ينبغي أن يكون على طريقة دين العجائز وأن الدين سيكون بألف خير طالما أن الناس يمارسون الأعمال العبادية وملحقاتها ويقيمون المراسم في المناسبات الدينية و لا نحتاج إلى شيء أخر يرون سلامة الدين من هذا المنطلق، وهذا بطبيعة الحال يعني فقدان التمييز بين الممارسة الواعية، المرتبطة جوهرياً بغايات الدين والمنعكسة على سلوك المتدينين وبين الممارسة الطقسية، التي يتم فيها بتر العلاقة بين الممارسات وغايتها فتجد الإنسان يمارس عبادته ومراسم الإحياء لكثير من الأمور الدينية ولكن في المقابل تجد أعمالة وأخلاقه ومعاملاته لا تنبع من تعاليم الدين، وهذه نقطة ذات شجون يمكن أن يتكلم فيها الإنسان ولكن لا يناسب المقام.
على كل حال فالمشكلة ليست فقط في أن هناك من يتعامل، مع عقائد الناس بأسلوب التلقين والتقليد، بل الأخطر أن هناك من يرى أن دين الناس يفترض أن يبنى على التقليد في الاعتقاد والاستناد إلى رواية هنا أو أخرى هناك، ويرى في التعدي عن ذلك خروجاً عن الطريقة التي تناسب الدين، هذا إن لم يراه خروجاً عن الدين أصلاً.
إلا أنه مضافاً إلى خطأ هذه الفكرة في نفسها ومخالفتها لضروريات العقل والدين، إذا ما نأتي نرى نقيمها بالقياس إلى واقعنا الذي نعيش فيه فإننا لم نعد في عصر يسود فيه الجهل والأمية والسذاجة المعرفية بحيث يمكن لهذه الرؤيا أن تجد لها باعه، لقد انتشر العلم كما تعرفون من النادر أن تجد أميين الآن خصوصاًًمن الجيل الصاعد، انتشر العلم وصار التعليم موجود في كل أصقاع الأرض ومن النادر ما تجد من هم غير متعلمين إلا بعض من الجيل السابق، الذين لا زالوا أحياء لكن بعد عشرين سنة إلى الأمام ماذا سيكون الواقع.
ولكن ماذا عن هذا الجيل، جيل الشباب الذي يدرس الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والالكترونيات ..الخ هل يمكن أن يبقى التعامل المعرفي معه على أساس دين العجائز المزعوم هذا؟ وعلى أساس تلقين العقائد وتحفيظ الأدلة دون أن يتم بناءه معرفياً ومنطقياً بحيث يصير معتقداً عن تعقل وشريكاً في إقامة الدليل فيمتلك الحصانة الذاتية وليس مجرد حصانه عرضية تزول عند الاهتزازات.
إذ الشباب المتعلم يجد أن سائر العلوم التي يتعلمها طول العمر منذ نعومة الأظافر من المدرسة من الصف الأول الابتدائي علموه الرياضيات، يجد أنه مبني على أساس منهج صارم ومعطيات تؤدي إلى نتائج مضمونة، عندما يأتي لمعرفته بدينه يجد أنها مبنية على أساس الأتباع والتقليد وحفظ الأدلة دون تعقل حقيقي له، وبالتالي كيف سيصمد هذا الشاب أمام الهجمة المادية على المجتمع، هذا بالنسبة لعلاقة المنظومة اللاهوتية بالناس.
وهي تنقلنا للالتفات إلى النقطة الثانية:
وهي وجود مشكلة في نفس المنظومة اللاهوتية في بعض نسخها وأشكالها، والذي يرجع في الحقيقة إلى خلل في الأساس المعرفي الذي بنيت عليه هذه النسخة أو الرؤية أو شكل المنظومة اللاهوتية.
لماذا أقول التماسك المعرفي؟
لأن التأسيس المعرفي هو الذي يسمح بتماسك ما يبنى عليه من نظم عقدية وعملية، لأن كل بناء فكري إنما يقع من خلال الأدوات والأسس المعرفية، وهي تشكل هذه الأدوات بالنسبة إلى النظم والرؤى الفكرية كما تشكل مستلزمات البناء من أحجار وحديد ورمل واسمنت بالنسبة للبناء، إذ إنها هي التي تحدد إن كان البناء سيصمد أمام الزلازل والعواصف أم أنه سينهار أو تظهر عيوبه عند بداية فصل الشتاء، كذلك الأمر إن الأساس المعرفي للمنظومة اللاهوتية هو الذي يحدد قيمتها الواقعية وهو الذي يجعل منها عصية على النقد والنقض إلا مشاغبتها، أو على العكس يجعل هذه الأسس والأدوات المعرفية تجعل من المنظومة اللاهوتية أو المنظومة الفكرية بشكل عام متخلخلة أيله إلى السقوط رغم التشبث العاطفي والنفسي بها.
ومن هنا أقول بأنه يمكننا أو يمكنك أن تنظر إلى المحن الفكرية وانتشار الظاهر الإلحادية على أنها شر على أنها شيء غريب، ولكن أيضاً يمكنك أن تنظر إليها كمواطن تتم فيها عملية تمحيص واختبار لعلاقة الإنسان بالمنظومة الفكرية الإلهية ولفهمه ووعيه بحقيقتها ومقوماتها وغاياتها ودورها في الحياة الإنسانية.
لتكشف عن الأخطاء والزلات والإهمال واللامبالاة والتقصير والقصور التي منيت بها المنظومة اللاهوتية في عملية الفهم والبناء، وبالتالي الحالة الألحادية والحالة المادية بانتشارها هي تنبيه من شأنه أن يوقظ النفس البشرية لتنزل من عالم الأحلام والخيال والآمال الطفولية وتعاين الواقع الذي يحتاج جهداً وعملاً، حيث لا تكفي النوايا الصافية ولا المقاصد المخلصة لإنجاز ما لابد من انجازه.
كثيراً مالا يعي الناس عامة ومتخصصين، أهمية العديد من الأمور ودورها وتوقف النجاح عليها، كما يحصل كثيراً مع الأطفال والمراهقين، تتكلم وتتكلم ولا كأنك تتكلم.
رغم النصائح ورغم الأصوات المعارضة، ورغم الذين يلوحون ويرشدون من نفس أئمة الدين إلى إتباع الطريق المناسب إلا أن القافلة تسير، ويُنظر إلى أولائك على أنهم مجرد أصوات ناشزة تريد أن تسلب الدين بساطته وسهولته، وفي أحسن الحالات ينظر إليهم على أنهم يبالغون في قلقهم أو في حذرهم أو في اهتمامهم، هذا إذا لم ينظر إليهم على أنهم يريدون أن يغيروا أو يحرفوا الدين، ولكن تمضي الأيام وتبدأ تتكشف شيئاً فشيئاً عناصر الإفراط والتفريط، التي منيت بها الرؤية التي سادت وانتشرت وسيطرت، تبدأ العيوب النظرية والعملية بالتكشف والبروز لتعلن في النهاية أنكم لم تسمعوا الكلام الذي قيل لكم، ولا التفتم إلى التحذير الذي وجه إليكم، ولأجلكم ولازلتم لا تسمعون، وأول تحذير صدر من رسول الله صلى الله عليه وآله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة».
هذه الحالة من الصمم عن صوت العقل المؤدب بالمنهج السليم تصحب الإنسان منذ الطفولة وحتى الكهولة، أفراداً وجماعات وأمماً والبشرية بأكملها، ويبدوا أننا لا نتعلم إلا بعد أن نذوق اللوعة، ونعاين الإفراط والتفريط أمام أعيننا فنستيقظ حتى ندرك أن الحق والعدالة والإنصاف لم يكن تماماً فيما اخترناه وشيدناه تماماً، والمضحك المبكي في نفس الوقت أن هناك من لا يتعلم حتى بعد أن يعاين اللوعة.
في الحقيقة لست أرى في الظاهر الإلحادية والسيطرة المادية شراً أكثر مما أرى فيها علامات تشير إلى مرض قد نشب في جسد المنظومة الفكرية البشرية عموماً، بشكل كلي واللاهوتية من ضمنها خصوصاً حيث أن جهاز المناعة المتمثل بالعقل المؤدب بالمنهج السليم يبدأ بإفرازها بداعي الكشف عن الخلل، أقوم الآن بتخييل المسألة حتى أقرّب الفكرة.
يبدأ بإفرازها بداعي الكشف عن الخلل والتنبيه على ضرورة العلاج، مثل ما يعمل جهاز المناعة في الجسم، ولكن المرض هذه المرة قد تفشى إلى حد الخطر، والسبب ليس في أن التلوث كان قوياً من المنظومة المادية يعني أسسها قوية ومتينة لا، هي أوهن من بيت العنكبوت، لكن المشكلة أن الأدوات معرض عنها كما سيتبين.
السبب ليس في أن التلوث كان قوياَ بل في أن جهاز المناعة قد تم تعطيله وتشويهه، قد تم تعطيل العقل من الداخل ومن الخارج، بل من العمق، حتى ممن رفع شعاره لقد تمت مهاجمته من كل الاتجاهات، فراح المرض المادي يفتك وراح الجسد اللاهوتي يتداعى ولكن لا المرض يدرك أن موطنه هو الجسد فإذا ذهب معه يذهب ولا الجسد يعي بأنه مريض لأن جهاز المناعة المتمثل بالعقل قد تم تعطيله ومهاجمته في نفس الوقت، فأنِس المريض بمرضه ورضي المرض بعمله.
لذلك الآن كثيرين يعتقدوا أن المشكلة هي الآن فقط من الخارج، المشكلة في خداع وتضليل المنظومة المادية، فلا يوجد أي مشكلة من الداخل.
حتى لا يبقى الكلام مجرد دعوى سوف أحاول شرح ذلك والتدليل عليه شيئاً ما بالنحو المناسب للمقام، تعالوا لننظر في الأساس الذي بنيت عليه المنظومة المادية أو التي بنت عليه المنظومة المادية صرحها، لنجد أنه يتمثل في منهجها المعرفي، إذ باقتصارها على المنهج التجريبي المتطرف بدأً من لوك، هيوم، كانط، جماعة فيينا، برتراند راسل، هؤلاء الأقطاب قامت بإلغاء الميتافيزيقا واعتبارها سفسطة وشعوذة، وباقتصارها على المنهج التجريبي المتطرف، طبعاً قلنا سابقاً أن الميتافيزيقا كمصطلح متداول هي تشكل حتى ولو لم يرضى بتسميتها بهذا الاسم هي تشكل الأساس العقلي العقدي المبرهن على أساس العقل يفترض أن تكون كذلك.
فهم باعتمادهم المنهج التجريبي المتطرف قاموا بإلغاء الميتافيزيقا واعتبارها هؤلاء سفسطة وشعوذة، الشعوذة ليست مني هذا كلام منهم، كانط يستعمل هذا المصطلح، وهيوم يستعمل هذا المصطلح، وباقتصارها على المنهج التجريبي المتطرف قامت بإلغاء مباديء المنهج العقلي البرهاني واعتبرته مبهماً، مجرد ألفاظ يستعملها العقل ليسهل عمليه التفكير وليس لها واقعية مثل ما يقول راسل، ليتظاهر بأنه قرأ المنهج العقلي البرهاني وحينما يقرأ الإنسان ما كتب أي إنسان عنده مجرد اطلاع بسيط ععلى المنهج العقلي البرهاني يعرف أنه يكذب في دعواه، لكن يتظاهر بأنه قرأ وأنه يعطي الخلاصة ويقوم بنقضها.
باقتصارها على المنهج التجريبي المتطرف قامت بإلغاء مبادئ المنهج العقلي البرهاني واعتبرته مبهم لا موضوعية فيه، ورفضت الضرورة المنطقية لأوليات العقل وهذه نقطة يجب أن تقف عليها كثيراً لأنه هي المفتاح الذي انطلقوا منه إلى ما يسمى بالنقود العلمية والتجريبية.
سنأتي لتفصيلات هذه النقطة إن شاء الله، لم يتمكنوا من أن يستغلوا العلم ضد اللاهوت إلا بناء على هذه الركيزة، بعد أن رفضوا الضرورة المنطقية لأوليات العقل أمكن استغلال النظريات العلمية لصالحهم، كذلك الأمر، المسألة ليست واقفة هنا فقط، إهمال المنهج العقلي البرهاني هو الذي سمح بتأسيس الليبرالية لتقع في فخ الإفراط والتفريط بتنظيم المجتمع والسياسة، الليبرالية ليس كلها باطل ليس كلها شر، لكن في إفراط وتفريط، البعد عن المنهج السليم يؤدي إلى الإفراط والتفريط، وهذا الإهمال عنه هو الذي سمح بتأسيس النفعية عند جيرمي بنثام وجون ستيوارت ميل ، فيما بعد صارت البرجماتية، فيما بعد صارت الأخلاق كلها عواطف عند جماعة فيينا، هو الذي سمح بتأسيس النفعية منهجاً للسلوك وقاعدة للتشريع والتنظيم وهذه الامور ذكرتها تفصيلاً فيما مضى، وبالتالي الوقوع في الإفراط والتفريط، وكذلك الحال في تأسيس المنظومة الاقتصادية والرأسمالية ومن قبل الاشتراكية، كلها مبنية على أساس غايات ومبادئ منافية للعقل البرهاني في العديد من مفاصلها، هذا هو حال المنظومة المادية، هل اللاهوتية أحسن حالاً، أنظر في التاريخ والحاضر، أنظر في المسيحية واليهودية والإسلام، أليس ممارسات وسلوكيات المتدينين أحد الأسباب الرئيسية التي أعطت جرعة الحياة للمنظومة المادية، أصلاً عامل ردة الفعل هو عملياً أحد أقوى الأسباب اللي حفزت والتي أثرت على أمثال لوك وهيوم وكانط، والآخرين، وهي أحد أكبر الأسباب التي تؤثر عملياً على كثير من المتدينين وغيرهم.
لم يكن العقل البرهاني أحسن حالاً في داخل المنظومات اللاهوتية تفصيل ذلك الذي سأقوم به الآن.
لم يكن أحسن حالاً لا مِن مَن عاداه ولا من جانب عاداه، ولا من جانب من نصره، وما أكثر الذين ناصروه وكتبوا في منهجه دون أن يتشربوا طريقته ومنهجيته ويصير التعقل ملكة عندهم فلم ينعكس على فكره وسلوكهم، بل اتخذوه مطيه للدفاع المحض عن مشهوراتهم ومقبولاتهم غير الممحصة سلفاً في ميزان العقل، فأفسدوا تحت شعار العقل، كما افسد من حاربه وعاداه تحت شعار البديل الذي اختاره وتأبّط به، وكما أفسدت المنظومة المادية تحت شعار البديل الذي اختارته وهو المنهج التجريبي المتطرف، وبالجهود حتى أتوسع في ذلك، فبالعودة إلى الأسلحة الرئيسية التي جهرها الماديون في وجه الدين والمنظومة اللاهوتية عموماً، نجد أنها كلها ترجع إلى أساس جوهري ووحيد، وهو المنهجية المعرفية المتبناة من قبلها، والتي على أساسها نقضوا الأساس النظري للدين وعلى أساسها نظروا للبديل العقدي والأخلاقي والاجتماعي التي قاموا بمحاكمة الدين والمنظومة اللاهوتية من خلاله، وفسروا الدين أو تاريخ الدين به وقيموا من خلال عقائده وتعاليمه.
والآن، فلننظر أليس النزاع والصراع على تحديد المنهجية المعرفية للقضايا الدينية لاستنباط والاعتقاد للقضايا، النزاع على تحديد المنهجية المعرفية وهو أحد أبرز النزاعات الموجودة في داخل المنظومة اللاهوتية بين مذاهبها وتياراتها في كل الأديان، في اليهودية في المسيحية في الإسلام، وفي داخل المذاهب في داخل الأديان.
الم ترى أن أشهر وأوسع وأخطر النزاعات التي قامت بها اللاهوتيين قد كانت حول مصادر المعرفة، حول دور العقل، دور النص، دور الكشف، دور الإجماع، دور الشهرة، دور العرف، أليست هذه كلها نزاعات معرفية تترتب على نتيجتها خريطة المنظومة اللاهوتية ومعالمها الكلية والجزئية والعامة والخاصة، فإذاً تعالوا لنُجري مقارنة بين المنهجية المعرفية التجريبية المادية والمنهجيات المتصارعة فيما بينها في داخل المنظومة اللاهوتية لنرى ما الذي سنعثر عليه.
فللنظر إلى جوهر المنهج المعرفي التجريبي المتطرف، سنجد أنه عبارة عن تحجيم أحكام العقل البديهية والنظرية، بحدود ما تعطيه التجربة الحسية بأنها أيّ التجربة الحسية هي الحاكم الأعلى.
الآن فلننظر إلى جوهر المناهج المعرفية المتصارعة، في داخل المنظومات اللاهوتية والتي على أساسها، على أساس هذه المنهجية التي اختارها كلاً منهم، بنا كل اتجاه منظومته العقدية والعملية المناسبة له، حيث تجد أنه وفي قبال المنهج العقلي البرهاني الذي يرى حاكمية العقل البرهاني بنحو مطلق، يوجد من يرى أما محدودية أحكام العقل البديهية والنظرية معاً مطابق تماماً للنظرة المادية من هذه الجهة ويجعل الحاكمية المطلقة لمصدر أخر ظاهر المرويات الدينية أو الكشوفات العرفانية وإما فقط محدودية الأحكام النظرية، ويجعل الحاكمية فيها لغير العقل من تلك الأمور المذكورة، وبالتالي هناك تقاطع كلي أو جزئي مع المنهجية المعرفية للماديين، ولكن الأخطر من كل ذلك، أن هناك في داخل المناهج المعرفية الدينية هناك تسويغ لنفس النقطة والمدخل الذي دخلت منه المنظومة المعرفية عند الماديين.
يعني هناك تسويغ من داخل المناهج المعرفية للمنظرين الدينيين، تسويغ لنفس المدخل الذي دخل الماديون منه، ونفذوا من خلاله لهدم المنظومة الدينية اللاهوتية، وبالتالي كيف سيواجه المنهجةَ المعرفية للمادية كيف سيواجهه من يقول بأن أوليات العقل لا تشمل كل العوالم، وما يراه العقل متناقضاً مثل القونوي، يكون من الواجبات عند الراسخين في العالم، طبعا ذكرت قول القونوي باعتبار أن ذكره لا يوجد فيه مشكلة،
أو كيف سيواجهها من يقول بأن العقل يتبع في الفلسفة هواه، انظرو عبارة جميلة جداً العقل يتبعه في الفلسفة هواه، وفي الملة هداه، هذه عبارة التفتازاني
وكثيرون من داخل مذاهب أخرى يقولون نفس المقولة بتعابير أخرى، فكيف سيواجه المنظومة المادية إذا هو كان يدخل من نفس المدخل وسأبين ذلك، أو كيف سيواجهها من يرفض ويشكك بالقدرة المعرفية النظرية للعقل، ويدعوا إلى الاقتصار على المرويات الدينية، والأكثر من ذلك، كيف سيواجهها من يقول أن الاستدلال العقلي لا يعطي اليقين الحقيقي، لا تطمئن النفس إليه ويدعوا للجوء إلى الممارسة العرفانية لتحصيل الطمأنينة.
بل والأخطر من ذلك كله كيف سيواجهها من يقول: قاعدة العلية وقاعدة السنخية وقاعدة الاتفاقي لا يكون أكثري ولا دائمي وغيرها هي قواعد غير أولية وغير عقلية، وإنما تأخذ من التجربة والاستقراء، وهو بذلك يردد مقوله هيوم: أشرس واعتى الذين هاجموا الدين صار كل الهجوم على الدين الآن هو نتاج فكر هيوم، هذا الرجل ليس سهلاً في قدرته وفي ذكاءه وفي أسلوبه في الكلام لو تتبعت كل ما يقال تجد أنه أساسة ومنشأه هو، وكيف هو استطاع أن يقوم بكل ما قام به إلا بالإقرار بهذه القضايا، هو الذي اوجد مشكلة الاستقراء والتجربة الموجودة الآن، مشكلة العلوم التجريبية لأجله صار في شيء أسمه حساب احتمالات، بديل عن اليقين، هذه كلها اتجاهات في داخل المنظومة اللاهوتية، إن هذه المشكلة عينها قد عانت منها كلاً من المنظومة اللاهوتية المسيحية و اليهودية، ارجع للتاريخ تلاقيه بيعيد نفسه، حذواً بحذو، ومن باب التنبيه حتى لا يقال بان المسيحية الكاثوليكية اتبعت المنهج العقلي البرهاني وفشلت، باعتبار أن توما الأكويني أعطى المسيحية أساسها العقلي وقدم نفسه كمفسر وشارح للمنهج العقلي البرهاني وما نعاني منه الآن هو بسبب هذه المنظومة التي سادت حتى لا يقال ذلك.
أحيلكم على نفس توما الأكويني التي ارتكب نفس الخطأ وسوّغ لما يريده من نفس المنطلق الذي انطلق منه ودخل منه لوك وديفيد هيوم وكانط والآخرون.
هو نفسه يقول في كتابه الرد على الخوارج بمحدودية أنظر شخص يعد هو مظهر المنهج العقلي البرهاني، لدرجة أنه صار يسمى أتباع هذا المنهج بإسمه التومائيون، التومائيون الجدد، وهذه العادة دارجة في شخصنة كل شيء، وعلى كل حال ماذا يقول: يقول في كتابه الرد على الخوارج بمحدودية العقل أمام الإيمان، ويعتبر أن أوليات العقل مرجعها في حدودها إلى الحس، لماذا يقول ذلك؟ هذا آتى به تعليل لشيء قاله قبل وهو الذي أقوله الآن: ولذلك لا يحق للعقل أن يرفض فكرة التثليث، هو يعتقد بالوحدانية يقيم الأدلة والبراهين كلها أقام خمسة أدلة، لكن عقيدة التثليث هذه لا يحق للعقل أن يرفضها، هذه فوق طور العقل.. لماذا؟ لأن العقل كل أحكامه في النهاية ترجع إلى دائرة الحس، وهو بهذا الكلام يهدم كل الصرح العقدي الذي أسسه ويجعله بلا معنى، لماذا أقول ذلك لأن المدخل الذي نفذ منه الاكويني ليجعل محلاً لعقيدة التثليث في منظوماته اللاهوتية تحت عنوان فوق طور العقل وما أكثر ما نسمعه هذا المصطلح، ومحدودية مفاهيم العقل وأحكامه بالحس هو عينه بالضبط المنفذ الذي نفذت منه المادية لتجعل محلاً لمنهجها المعرفي بديلاً عن المنهج العقلي البرهاني لتؤسس على طبقه رؤاها العقدية والعملية المادية، راجعوا كلمات لوك، هيوم، كانط، لم يضربوا المنهج العقلي إلا من نفس الخاصرة التي تركها الأكويني رخوة ومكشوفة.
والأمر عينه عند ناقد الاتجاهات اللاهوتية التي اختارت غير منهج العقل كحاكم أعلى بجميع أنواعها وأصنافها فإنها جميعاً وجدت المنفذ عينه لتقعيد منهجيتها المعرفية ومنظومة العقدية والعملية المبنية عليها، ما هو هذا المنفذ؟
عبارة عن سلب العقل البرهاني بمبادئه واستدلالاته الحاكمية المطلقة، بغض النظر عن البديل الذي تضعه سواء كانت التجربة كما فعل الماديون أو الكشف العرفاني أو النصوص الدينية كما فعل العديد من اللاهوتيين، يعني اللب واحد، ومنشأ التقعيد واحد، وهو ضرب الحاكمية المطلقة لأحكام العقل.
والآن توضيحاً تعميقاً لهذه الفكرة حتى أتكلم فيما ذكرت أني سأتكلم به حول كيف استغل الماديون العلوم الطبيعية، حتى نعرف كيف استطاع الماديون استغلال العلوم الطبيعية لمعارضة المنظومة اللاهوتية في مسألة الوجود الإلهي وتدبيره، نجد أنهم استطاعوا ذلك بعد أن كرّسوا على المستوى المنهجي والمعرفي أن أوليات العقل ليست ضرورية بالضرورة المنطقية، ماذا يعني؟
يعني قانون العلية يمكن أن يتخلف بتفصيل أكثر يعني يمكن أن يوجد شيء بعد العدم، أو قابل للعدم ولا يكون بحاجة إلى شيء غيره يوجده، يعني شيء يمكن يوجد بعد العدم أو يمكن أنه يعدم ولكن وجوده ليس مستند إلى شيء غيره.
يمكن أن يوجد أي شيء عن أي شيء، فلا سنخية بين العلل والمعلولات ولا ضرورة، وبالتالي كما يدعي هيوم وكانط وراسل وكل من هو في حزبهم، فيقول: لو خُلينا (والعقل) بل مزدوجين، لقال بأنك إذا حككت رأسك يمكن أن يكون ذلك سبباً لتفجر بركان أو انطفاء نجم في السماء، ويمكن أن تجلب سكين لتقطع تفاحة فتجد نفسك تتخرج من الجامعة من مرحلة الدكتوراه، ما أقوله ليس مبالغ، لا آتي بأمثله من جيبي لا أخترع، هذه أمور موجودة في كتبهم يقول: العقل لو خلينا والعقل لجوّز ذلك، هيوم في كتابه يذكر أمثله من هذا القبيل، مثال من أمثلة التي ذكرها يقول ممكن أنه حصاة أن تطفئ نور الشمس، أمثله مثل الأمثلة التي ذكرتها، لا آتي بشيء من عندي هكذا قالوا على المستوى العقلي يمكن، فلا ضرورة، غاية الأمر عندما تم هذا التكريس للإمكان ترتب عليه محاولة لتبريرها كما سيأتي.
المهم عندما تم ضرب مبادئ العقل الأولى حتى قانون امتناع التناقض الذي هيوم ما تجرأ على ضربه تجد كانط ذهب إلى أبعد من ذلك أراد أن يصلح فأفسد، يقود إلى اعتباره خاصاً بطبيعة عقلنا، يقول نحن عقلنا طبيعته أنه ينظر إلى ترتب شيء بعد شيء لكن هذا مجرد حالة ذهنية ما يمنع أنه بالخارج أنه تكون في أشياء غير خاضعة لقانون العلية، هيوم جعل منشأه العادة، لماذا نقول نحن بالعلية هو يقول أنا قبل أن اغادر المهد كنت اتعامل مع قانون العلية على أنه واقع، ولكن هذا منشأة العادة منشأة من الخارج، كانط جاء وقال لا منشأة من طبيعة الذهن.
لذا جاء هايدغر وقال بأنه يمكن أن يكون النقيضان يجتمعان بالنسبة لعاقل آخر وكذلك بالنسبة إلى قانون العلية بطبيعة الحال وهذا الأمر يقول به فلان وفلان وفلان، من داخل المنظومات اللاهوتية، ولكن بألفاظ وتعابير تناسبه، والآن كيف استغلوا العلوم الطبيعية، بعد أن أصبح راسخاً أنه لا أوليات مطلقة، مطلقة الصدق، فقانون العلية مجرد نظام الأشياء التي نشاهده، ولا مانع أن يوجد شيء بلا علة وأن يتحرك بلا محرك، وأن يتكون النظام بلا منظم وأن يتركب المركب بلا مركِّب، وأن تتحقق العلاقات العرضية المتخادمة نحو غرض ما بلا مدبر، أصبح كل ذلك ممكناً عقلاً، كما زعموا لأنهم لم يميزوا بين الحكم العقلي والحكم الوهمي، بين حال العقل وحال الخيال، وهذا مباحث لها محلها، فعندئذ فقط أمكن أن يتم استغلال نظرية التطور حول الكائنات الحية فيأتون بحشر عبارات يحشرونها عنوة مثل العشوائية والعماء بلا هدف وبلا غاية وكأن البيولوجيا هكذا عبارات، البيولوجيا ما لها علاقة بهذه العبارات، العبارات ليست من موضع نظر البيولوجي بما هو بيولوجي، لكن لأنه يوجد خلفية مادية تريد أن تستغل ووجدت بغيتها في هذه النظرية، فقاموا بحشر هذه المصطلحات وهذه العبارات.
وعندئذ فقط استطاع بعض المنظرين في الفيزياء الكونية أن يدخلوا في مقام ذكر نظرية الانفجار الكبير عبائر مماثلة، مع أن الفيزياء ما لها علاقة بهذه المصطلحات، بما هي فيزياء، هذه عناوين أوسع منها، البحث الفيزيائي والبيولوجي والكيميائي، هذه موضوعات بحث في الميتافيزيقيا التي تم قصقصة جوانحها ورميها في زاوية العلوم الزائفة.
وتم أخذ المنظومة الفلسفية المادية على أنها أرضيه مفروغ عنها، وعلى أساسها انطلقوا في استغلال العلوم الطبيعية، ولو كان الوقت يسع وأردت التوسع لذكرت مجموعة كبيرة من الفضائح الفلسفية البرهانية التي سببها هيوم وكانط وجماعة فيينا وراسل والمحشورة عنوة أو عن رضاً، في التنظيرات العلمية الطبيعية في العلوم، ولكن يطول المقام بذلك.
ونفس الأمر يقال بالنسبة لبعض أقسام علم النفس وبعض أقسام علم الاجتماع، ولكن ما أريد قوله هنا هو أن المعاناة التي تعانيها المنظومة اللاهوتية من استغلال العلوم الطبيعية والإنسانية الوضعية في مواجهتها يرجع في الأساس إلى رسوخ المبادئ التي أرستها المنظومة المادية من خلال منهجها المعرفي التجريبي، وهذا المنهج أوجد لنفسه المبرر من نفس المنطلق التي أوجدت الإتجاهات المعرفية اللاهوتية مبرراتها لرفض حاكمية المنهج العقلي البرهاني.
ولذا أنت تقر المنطلق الذي انطلق منه المادي، فبعد ذلك لا يمكن أن يكون هناك مكان لما تريد أن تبنيه وهو عينه المنطلق الذي ارتكز له الشكاكين والنسبيين لذلك الماديين ذهبوا الى الشك المطلق أي النسبية، وهذا الصراع بينهم موجود لأن ما فعله هيوم ليس فقط أنه أخرج الميتافيزيقا من العلم، وما فعله لوك هو ليس فقط أنه أخرج الميتافيزيقا من العلم، بل أخرج الرياضيات وأخرج حتى الفيزياء، نتائج مبادئهم تؤدي إلى خروج ما تمسكوا به، يفقدوا البديل الذي أرادوا أن يجعلوه عن الميتافيزيقا والمنظومة الدينية، نفسه يصبح منهاراً بناءً على المبادئ التي اتكلوا عليها لضرب المنظومة اللاهوتية، لذلك جاء كانط هدفه كله أن يبحث عن الأساس الذي أدى إلى اليقين بالرياضيات، الرياضيات يقينية، لا أنه يعرف المنهج وعلى أساس المنهج عرف أن الرياضيات يقينية، لا، الرياضيات يقينية لا خلاف فيها، عدم الخلاف دليل اليقينية، الفيزياء علوم نستفيد منها فهي يقينية لكن ما هو أساسها المعرفي؟! فهيوم ولوك لم يتركوا لنا أساس، فجاء يحاول أن يبني أساس وقاده إلى المثالية المطلقة، صار حتى الواقع الخارجي لا يمكن اثباته، وان حاول من عدة جهات أن يتملص من ذلك وقاد إلى العدمية.
ولذلك حلول كانط لم تقبل منه، من راسل مثلا ومن جماعة فيينا، وذكرت أن ربما في الجلسة الماضية كيف أنهم يختلفون.
المهم بناءً على ذلك يتبين أن مركز المشكلة يكمن في المنهج المعرفي وبدون حسم هذه النقطة فلا جدوى لكل المحاولات، أنا لا أتكلم عن القدرة على تقديم الأدلة وصياغة الحجج، إذ ما من مذهب فكري في العالم كله إلا وقام بصياغة الحجج التي يرى أنها تدعم موقفه وعقيدته، ويتلقفها أتباعه ويرددونها ويطمئنون لها، وهذا أمر يفعله نفس الملحدين والماديين، ويقوم به أتباعهم أيضا، فما أتكلم عنه بعد تعييني لمركز المشكلة هو تقديم العلاج الجذري الشافي وهذا ما لا يكون بأن تحسم المنظومة اللاهوتية أمرها من جهة منهجها المعرفي هذا أولاً.
ثم واستناداً إلى تلك المنهجية أن يتم تخليص المنظومة اللاهوتية من كل العوالق التي زرعتها فيها الطبيعة البشرية التلقائية في المعرفة والنزوع -وهذه العبارة لوحدها تتضمن الكثير من المباحث- في تنظيراتها العقدية والعملية وفي علاقتها بالناس، هذا ثانياً.
ثم أن يتم كشف الخداع والزيف الذي مارسته المنظومة المادية في ادعائها باتباع العلم والعقل والأخلاق في نقدها للدين واتيانها بالبديل ثم ترويج ذلك في كل المجتمعات ليستيقضوا من سباتهم، هذا ثالثاً.
ثم أن يتم تقريب وتنزيل هذه المنهجية وهذه المنظومة إلى نفوس عالم الناس ليمتلكوا الحصانة الداخلية الواقعية في مواجهة التلوث المادي والالحادي، وليس فقط الاكتفاء بالحصانة العاطفية والنفسية، وهذا رابعا وأخيرا.
وبناءً على ذلك يتبين أن نزاعنا مع المنظومة المادية والإلحاد ليس في أساسه وجوهره نزاعاً دينياً، سواءً دينياً خاصاً أو عاماً، بل هو نزاع معرفي عقدي عقلي، سابق على الدين العام والخاص، هو نزاع حول كيف ينبغي أن نفكر وكيف ينبغي أن نعمل، هو نزاع حول وجود قانون عقلي موضوعي للتفكير، وقانون عقلي موضوعي للسلوك، أما النزاع على الدين فهذا تفصيل إذا ما حسمت تلك هان إنجازه، ولكن مع ذلك فإن الماديين يريدوا أن يوهموا أنفسهم ويوهمونا أن النزاع هو حول هذا التفصيل وهذا ليس بصحيح إلا في حالة واحدة وهي ان تكون المنظومة اللاهوتية نفسها لا ترى وجود قانون عقلي للتفكير كحاكم مطلق ولا تعترف بقانون عقلي للسلوك كحاكم مطلق، في هذه الحالة نعم يكون النزاع الحقيقي بينهم هو التفصيل حول الدين الخاص، لأنهم متفقان على نفي تلك الأسس ولكن في هذه الحالة، سيكون كلا الطرفين يستحقان إلى النقد ويحتاجان إلى التعليم والتفهيم، هذا هو مركز المشكلة حسب ما وجدته وهذه هي معالم العلاج الكلي، وهي تقتضي فيما تقتضيه أموراً عديدة لا أذكرها كلها وإنما أكتفي فقط في ذكر ثلاثة أمور بشكل سريع:
أولا: أن نقوم ليس فقط بدراسة المنظومة المادية لنرى كيف نشأت وكيف تطورت وعلام ارتكزت بل بدراسة المنظومات اللاهوتية للأديان والمذاهب الأخرى لنعرف عن كثب كيف تشكلت ولماذا ضعفت وانهارت أو هي في طريقها للإنهيار، لنتعلم من أخطاء غيرنا قبل أن يأتي اللاحقون ليتعلموا من أخطائنا.
ثانيا: أن نقوم بجمع التراث التاريخي الديني الذي جمعه الماديون عن الحضارات والأديان السابقة ثم نقوم بتصنيفه وإعادة قراءته وتفسيره والربط بين حلقاته طبقاً للرؤية اللاهوتية المبنية على المنهجية المعرفية للعقل البرهاني لنقدم بعد ذلك قراءة مفصله ومدعمة ومبرهنة للتاريخ الديني بدءاً بالسومريين والفراعنة مروراً بالأديان الشرقية والمعتقدات القبلية للشعوب البدائية، وصولاً للأديان المنتشرة بالشرق الأوسط أعني المسيحية واليهودية والإسلام، وهذا الأمر أصلا مارسه القرآن الكريم في كلامه وفي قصصه.
الغرض من ذلك مضافاً إلى أن تكون لنا رؤية شاملة، لنكشف كيف تمت عملية الإسقاط للرؤى المادية على عملية التفسير والتنظير، هو أصلا لا يعترف لا بالله ولا بالدين وجاء وفسّر الظاهرة الدينية بما يتناسب مع خلفيته، هذا لا يمكنك أن تكشفه إلا بأن ترجع مباشرة إلى نفس المصدر، وتبين أنه كيف حوّر وزوّر وقام بالتفسير بما يتناسب مع أهواءه، ولنكشف الاختلالات المنطقية في تلك المحاولات، والأمر عينه ينطبق على النظريات المطروحة في بعض أقسام علمي النفس والإجتماع.
ثالثا وأخيراً: أن نقوم بإعادة التدوين والتأسيس للمنهج العقلي البرهاني الذي أصابه من التشويه والإبهام ما جعله مزوياً في المكتبات العتيقة المنسية ولم يشتهر منه إلا ما زاد الطين بله وهذا أمرٌ ذكرت بعض ما يتعلق به في كتاب الفلسفة تأسيسها، تلويثها، تحريفها.
ثم بعد إعادة التدوين والتأسيس علينا أن نقوم بالعمل على أعادة الإعتبار للمنهج العقلي البرهاني وللميتافيزيقا البرهانية في المحافل العلمية وفي مدارسنا حتى يتم تخليصها من المبادئ والرؤى المادية والتي على أساسها تم استغلال الطبيعية والإنسانية الوضعية وأظهروها بمظهر المعارض والمنافي للمنظومة اللاهوتية. هكذا يفترض أن نبدأ وأن ننهج وأن نعمل إن شاء الله.
وهذا تمام الكلام والحمدلله رب العالمين